أحكام العشر الأواخر من رمضان
الحمد
لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد ان لا إله إلا
الله وحده لا شريك له ، إله الأولين والآخرين ، وأشهد ان محمداً عبده
ورسوله النبي الأمين ، عليه من ربه أزكى صلاة ، وأعطر تسليم ، وعلى آله
وأصحابه الطيبين الطاهرين ، مصابيح الدجى ، ونجوم الهدى ، ومن ابتعهم
واقنفى أثرهم ، إلى يوم الدين . . أما بعد :

فهذه
جملة من أحكام العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك ، أقدمها حديقة يانعة ،
ليقتطف منها الخطيب والإمام وحتى المأموم ، لتعم الفائدة أرجاء المسلمين ،
لا سيما وهي أحكام تهم المسلم في مثل تلك الأيام المباركات من شهر
الرحمات والبركات ، وحان اون الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق :


أولاً / ليلة القدر :

لقد
اختص الله تبارك وتعالى هذه الأمة المحمدية على غيرها من الأمم بخصائص
وفضلها على غيرها من الأمم بأن أرسل إليها أفضل الرسل والأنبياء وخاتمهم
وأخرهم ، وجعلها خير الأمم قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل
عمران ].

وقد
أنزل لهذه الأمة الكتاب المبين ، والصراط المستقيم ، كتاب الله العظيم ،
كلام رب العالمين ، قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [
الحجر ] ، وقال تعالى : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل
من حكيم حميد } [ فصلت ].

فقد
أنزل الله عز وجل القرآن الكريم في ليلة مباركة هي خير الليالي ، ليلة
اختصها الله عز وجل من بين الليالي ، ليلة العبادة فيها هي خير من عبادة
ألف شهر وهي ثلاث وثمانين سنة وثلاثة أشهر تقريباً ، ألا وهي ليلة القدر ،
قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر *
ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل
أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر } [ القدر ] ، وقال تعالى : { إنا أنزلناه
في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان ] ،
وسميت بليلة القدر لعظم قدرها وفضلها عند الله تبارك وتعالى ، ولأنه يقدر
فيها ما يكون في العام من الآجال والأرزاق وغير ذلك ، كما قال تعالى : {
فيها يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان ] .


سبب تسميتها ليلة القدر:

أولاً : أنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة ، فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام ، وهذا من حكمة الله عزوجل وبيان إتقان صنعه وخلقه . . .

ثانياً : سميت
ليلة القدر من القدر وهو الشرف كما تقول فلان ذو قدر عظيم ، أي ذو شرف
لقوله تعالى : { وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر }
وليلة خير من ألف شهر قدرها عظيم ولاشك .

ثالثاً : وقيل
لأن للعبادة فيها قدر عظيم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من قام
ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " [ متفق عليه ] .
وهذا لايحصل إلا لهذه الليلة فقط ، فلو أن الإنسان قام ليلة النصف من
شعبان ، أو ليلة النصف من رجب ، أو ليلة النصف من أي شهر ، أو في أي ليلة
لم يحصل له هذا الأجر . [ الشرح الممتع 6/494 ] .

يقول
الشيخ ابن عثيمين : أن الإنسان ينال أجرها وإن لم يعلم بها ، لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً " ولم يقل
عالماً بها ، ولو كان العلم شرطاً في حصول هذا الثواب لبينه الرسول صلى
الله عليه وسلم .


علامات ليلة القدر :

1ـ قوة الإضاءة والنور في تلك الليلة ، وهذه العلامة في الوقت الحاضر لا يحس بها إلا من كان البر بعيداً عن الأنوار .

2ـ زيادة النور في تلك الليلة .


الطمأنينة ، أي طمأنينة القلب ، وانشراح الصدر من المؤمن ، فإنه يجد راحة
وطمأنينة وانشراح صدر في تلك الليلة أكثر من مما يجده في بقية الليالي .

4ـ أن الرياح تكون فيها ساكنة أي : لاتأتي فيها عواصف أو قواصف ، بل يكون الجو مناسباً .

5ـ أنه قد يُري الله الإنسان الليلة في المنام ، كما حصل ذلك لبعض الصحابة .

6ـ أن الإنسان يجد في القيام لذة أكثر مما في غيرها من الليالي .

7-
أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع ، صافية ليست كعادتها في بقية
الأيام ، ويدل لذلك حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال : " أخبرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " أنها تطلع يومئذ لاشعاع لها " [ أخرجه مسلم ]
.


تحري ليلة القدر :

ليلة
القدر ليلة مباركة ، وهي في ليالي شهر رمضان ، ويمكن التماسها في العشر
الأواخر منه ، وفي الأوتار خاصة ، وأرجى ليلة يمكن أن تكون فيها هي ليلة
السابع والعشرين من شهر رمضان ، فكان أبي بن كعب يقول : " والله إني لأعلم
أي ليلة هي ، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ،
وهي ليلة سبع وعشرين " [ أخرجه مسلم ] . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان متحرياً فليتحرها ليلة سبع
وعشرين ، يعني ليلة القدر " [ أخرجه أحمد بسند صحيح ] .

والصحيح
أن ليلة القدر لا أحد يعرف لها يوماً محدداً ، فعن عبدالله بن أنيس : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها ، وإذا
بي أسجد صبيحتها في ماء وطين " قال : فمطرنا في ليلة ثلاث وعشرين ، فصلى
بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف ، وإن أثر الماء والطين على جبهته
وأنفه " [ أخرجه مسلم وأحمد ] ، وعن أبي بكرة : أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : " التمسوها في تسع بقين ، أو سبع بقين ، أو خمس بقين
، أو ثلاث بقين ، أو آخر ليلة " وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان
صلاته في سائر السنة ، فإذا دخل العشر اجتهد " [ أخرجه أحمد والترمذي
وصححه ] .

وعن
بن عمر رضي الله عنهما : أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " أرى رؤياكم قد تواطأت ـ توافقت ـ في السبع الأواخر ، فمن كان
متحريها فليتحرها في السبع الأواخر " [ متفق عليه ] .

وعن
أبي سلمة قال : سألت أبا سعيد وكان لي صديقاً ، فقال : اعتكفنا مع النبي
صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان ، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا وقال
: " إني أريت ليلة القدر ، ثم أُنْسِيُتها أو نُسيتها ، فالتمسوها في
العشر الأواخر في الوتر ، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين ، فمن كان اعتكف
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع " فرجعنا وما نرى في السماء قزعة
ـ قطعة ـ فجاءت سحابة فمطرت حتى سأل سقف المسجد ، وكان من جريد النخل ،
وأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين ،
حتى رأيت أثر الطين في جبهته " [ متفق عليه ] .

وعن
عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تحروا ليلة
القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان " [ متفق عليه ] .

وعن
أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يجاور ـ يعتكف ـ في رمضان ، العشر التي في وسط الشهر ، فإذا كان حين
يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه ، ورجع من
كان يجاور معه ، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها ،
فخطب الناس فأمرهم ما شاء الله ، ثم قال : " كنت أجاور هذه العشر ثم قد
بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر ، فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه ،
وقد أُريت هذه الليلة ثم أُنسيتها فابتغوها في العشر الأواخر وابتغوها في
كل وتر ، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين " ، فاستهلت السماء في تلك الليلة
فأمطرت فوكف المسجد ـ خر من سقفه ـ في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة
إحدى وعشرين فبصرت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونظرت إليه انصرف
من الصبح ووجهه ممتلئ طيناً وماءً " [ متفق عليه ] .

وعن
عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ـ يعتكف ـ في العشر
الأواخر من رمضان ، ويقول : " تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من
رمضان " [ متفق عليه ] .

وعن
بن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " التمسوها
في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر ، في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ،
في خامسة تبقى " [ أخرجه البخاري ] ، قال أبو سلمة : قلت يا أبا سعيد :
إنكم أعلم بالعدد منا ، قال أجل نحن أحق بذلك منكم ، قال قلت : ما التاسعة
والسابعة والخامسة ؟ قال : إذا مضت واحدة وعشرين فالتي تليها ثنتين وعشرين
وهي التاسعة ، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة ، فإذا مضى خمس
وعشرون فالتي تليها الخامسة .

وقال
بن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هي في
العشر ، هي في تسع يمضين ، أو في سبع يبقين " يعني ليلة القدر ، قال عبد
الوهاب عن أيوب وعن خالد عن عكرمة عن ابن عباس : " التمسوا في أربع وعشرين "
[ أخرجه البخاري ] .

وعن
عبادة بن الصامت قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة
القدر ، فتلاحى ـ تخاصم ـ رجلان من المسلمين فقال : " خرجت لأخبركم بليلة
القدر ، فتلاحى فلان وفلان ، فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم ، فالتمسوها في
التاسعة والسابعة والخامسة " [ أخرجه البخاري ] .

وعن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : " رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع
وعشرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أرى رؤياكم في العشر الأواخر ،
فاطلبوها في الوتر منها " [ أخرجه مسلم ] .

وعن
أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أريت
ليلة القدر ، ثم أيقظني بعض أهلي ، فنُسيتها فالتمسوها في العشر الغوابر ـ
البواقي ـ " [ أخرجه مسلم ] .

وعن
أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، اعتكف العشر الأول من رمضان ، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة
تركية على سدتها حصير ، قال فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة ، ثم
أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه فقال : " إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه
الليلة ، ثم اعتكفت العشر الأوسط ، ثم أُتيت فقيل لي : إنها في العشر
الأواخر ، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ، فاعتكف الناس معه ، قال : "
وإني أريتها ليلة وتر ، وأني أسجد صبيحتها في طين وماء ، فأصبح من ليلة
إحدى وعشرين وقد قام إلي الصبح فمطرت السماء فوكف المسجد ـ قَطَرَ الماء من
سقفه ـ فأبصرت الطين ظاهراً ، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وأنفه
كلاهما فيهما الطين ظاهرا وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر " [
متفق عليه ] .

وعن
عبد الله بن أنيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أريت ليلة
القدر ، ثم أنسيتها ، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين " قال : فمطرنا ليلة
ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف ، وإن أثر
الماء والطين على جبهته وأنفه . قال : وكان عبد الله بن أنيس يقول : ثلاث
وعشرين . [ أخرجه مسلم ] .

مما
سبق ذكره من الأحاديث يتضح لنا أن ليلة القدر لا يعلم بوقتها أحد ، فهي
ليلة متنقلة ، فقد تكون في سنة ليلة خمس وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة
إحدى وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة تسع وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة سبع
وعشرين ، فهي ليلة متنقلة ، ولقد أخفى الله تعالى علمها ، حتى يجتهد
الناس في طلبها ، فيكثرون من الصلاة والقيام والدعاء في ليالي العشر من
رمضان رجاء إدراكها ، وهي مثل الساعة المستجابة يوم الجمعة ، فقد أخفاها
الله تعالى عن عباده لمثل ما أخفى عنه ليلة القدر .

يقول البغوي رحمه الله تعالى : وفي الجملة أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا بالعبادة في ليالي رمضان طمعاً في إدراكها .

وقد
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر ، ويأمر أصحابه بتحريها ،
وكان يوقظ أهله في ليالي العشر الأواخر من رمضان رجاء أن يدركوا ليلة
القدر، وكان يشد المئزر وذلك كناية عن جده واجتهاده عليه الصلاة والسلام في
العبادة في تلك الليالي ، واعتزاله النساء فيها ، فعن عائشة رضي الله
عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر ، أحيا ليله ،
وأيقظ أهله ، وشد المئزر " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وفي رواية : " كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره
" .

فعلى
المسلم أن يتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم ، فيجتهد في العبادة ، ويكثر
من الطاعة في كل وقت وحين ، وخصوصاً في مثل هذه العشر الأخيرة من رمضان ،
ففيها أعظم ليلة ، فيها ليلة عظيمة القدر ، ورفيعة الشرف ، إنها ليلة
القدر ، فهاهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر ، يقوم ويعتكف في هذه الليالي المباركات رجاء أن يدرك ليلة القدر ،
رجاء مغفرة الله تعالى له ، فحري بكل مسلم صادق ، يرجو ما عند الله تعالى
من الأجر والثواب ، ويطمع فيما عند الله تعالى من الجزاء الحسن ، ومن يرغب
في جنة الخلد
وملك
لا يبلى ، وحري بكل مؤمن صادق يخاف عذاب ربه ، ويخشى عقابه ، ويهرب من
نار تلظى ، حري به أن يقوم هذه الليالي ، ويعتكف فيها بقدر استطاعته ،
تأسياً بالنبي الكريم ، نبي الرحمة والهدى صلى الله عليه وسلم ، فما هي
إلا ليالي عشر ، ثم ينقضي شهر الخير والبركة ، شهر الرحمة والمغفرة ،
والعتق من النار ، ما هي إلا ليالي معدودات ، ويرتحل الضيف العزيز ، الذي
كنا بالأمس القريب ننتظره بكل فرح وشوق ، وبكل لهفة وحب ، وها نحن في هذه
اليالي المباركات ليالي النفحات الربانية الكريمة ، نتأهب جميعاً لتوديعه ،
والقلوب حزينة على فرقاه ، والنفوس يملؤها الحزن والأسى على مغادرته
وارتحاله ، ولا ندري أيكون شاهداً لنا أم شاهداً علينا ، فقد أودعناه كل
عمل لنا ، ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا صالح الأعمال والأقوال ، وأن
يتجاوز عن سيئها وسقيمها ، إنه رباً براً رحيماً غفوراً .

فليحرص
الجميع على أداء صلاتي التراويح والتهجد جماعة في بيوت الله تعالى طمعاً
في رحمته ، وخوفاً من عذابه ، كما يحرص الواحد منا على جمع ماله ، فكم هم
الناس اليوم الذين نجدهم حول آلات الصرف الآلي ، وكم هم الناس اليوم الذين
نجدهم على الأرصفة ، وحول شاشات التلفاز ، والفضائيات ، متحلقين وقد
غشيتهم السكينة ، وهدأت منهم الحركات ، فهم جمود لا يتكلمون ، وأسرى شاشات
لا يُطلقون ، وكلهم مسيئون ومذنبون ، والعياذ بالله ، فهل من عودة صادقة
لدين الله تعالى ، وهل من مراجعة للنفس ، قبل أن يداهمها ملك الموت ،
فتقضي نحبها ولا تدري ما الله فاعل بها ، لا بد ان نعرض أنفسنا على كتاب
ربنا ، وسنة نبينا فهما ميزانا العدل والحق ، فحاسبوا أنفسكم في هذه
الدنيا ما دام انكم في دار المهلة ، فاليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا
عمل ، حاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا ، فهي عشر ليالي نتطلع فيها جميعاً
لرحمة أرحم الراحمين ، لعلنا أن نكون فيها من الصائيمين المحتسبين ، ومن
القائيمين الوجلين ، وليلة القدر لا تخرج بحال عن ليلة من إحدى تلك
الليالي فعلينا أن نجتهد ونخلص العمل لله تعالى رجاء الحصول على ليلة
القدر ، فمن وفق فيها للقيام والعمل الصالح ، ومن ثم نالها فقد وقع أجره
على الله تعالى ، بمغفرة ما تقدم من ذنوبه ، وكل ابن خطاء ، وكل الناس
صاحب خطأ وزلل ، وذنب وخطيئة ، فعلينا أن نصبر ونصابر ونرابط في هذه
الليالي المباركات ، لعلنا أن ندرك ليلة القدر ، فيغفر الله لنا ما تقد من
ذنوبنا ، فنفوز برضى الرب تبارك وتعالى .

وهذه
العشر هي ختام شهر رمضان ، والأعمال بالخواتيم ، ولعل أحدنا أن يدرك ليلة
القدر وهو قائم يصلي بين يدي ربه سبحانه وتعالى ، فيغفر الله له ما تقدم
من ذنبه .

وعلى
المسلم أن يحث أهله وينشطهم ويرغبهم في قيام هذه الليالي للاستزاده من
العبادة ، وكثرة الطاعة وفعل الخير ، لا سيما ونحن في موسم عظيم ، لا يفرط
فيه إلا محروم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، يقول لأصحابه : " قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، كتب الله
عليكم صيامه ، فيه تفتَّح أبواب الجنة ، وتغلق أبواب الجحيم ، وتغل
الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم " [ أخرجه أحمد
والنسائي ] ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً : " أتاكم رمضان ،
شهر بركة ، يغشاكم الله فيه ، فينزل الرحمة ، ويحط الخطايا ، ويستجيب فيه
الدعاء ، ينظر إلى تنافسكم فيه ، ويباهي بكم ملائكته ، فأروا من أنفسكم
خيرا ، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله " [ أخرجه الطبراني ورواته ثقات ] .

فتنافسوا
عباد الله في طاعة ربكم ، وأروا ربكم منكم خيراً ، وارباؤوا بأنفسكم عن
مواطن الريب والشك ، واحذروا من الوقوع في الذنوب والمعاصي فكل مؤاخذ بما
فعل ، وبما قال ، قال تعالى : " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " [ ق
18 ] ، وقال تعالى : " ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون
فيه " [ يونس 61 ] .

وورد عن بعض السلف الاغتسال والتطيب في ليالي العشر تحرياً لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها .

ولهذا
ينبغي أن يتحراها المؤمن في كل ليالي العشر عملاً بقوله صلى الله عليه
وسلم : " التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان " [ متفق عليه ] ،
وقد أخفى الله عز وجل علمها ، حتى يجتهد الناس في العبادة في تلك الليالي ،
ويجدوا في طلبها بغية الحصول عليها ، فيظنون أنها في كل ليلة ، فترى
الكثير من الناس في تلك الليالي المباركة ما بين ساجد وقائم وداع وباك ،
فاللهم وفقنا لقيام ليلة القدر ، واجعلها لنا خيراً من ألف شهر ، فالناس
بقيامهم تلك الليالي يثابون بإذن الله تعالى على قيامهم كل ليلة ، كيف لا
وهم يرجون ليلة القدر أن تكون في كل ليلة ، ولهذا كان من سنة النبي صلى
الله عليه وسلم الإعتكاف في ليالي العشر من رمضان .

وليلة
القدر لاتختص بليلة معينة في جميع الأعوام بل هي تنتقل ، أي قد تكون في
عام ليلة خمس وعشرين ، وفي عام آخر ليلة ثلاث وعشرين وهكذا فهي غير ثابتة
بليلة معينة في كل عام .
كما سبق ذكره من الأدلة .


فضائل ليلة القدر :

1ـ أنها ليلة أنزل الله فيها القرآن ، قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } .

2ـ أنها ليلة مباركة ، قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } .

3ـ يكتب الله تعالى فيها الآجال والأرزاق خلال العام ، قال تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم } .

4ـ فضل العبادة فيها عن غيرها من الليالي ، قال تعالى : { ليلة القدر خير من ألف شهر } .


تنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة و الرحمة والمغفرة ، قال
تعالى : { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر } .


ليلة خالية من الشر والأذى وتكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبر ، وتكثر
فيها السلامة من العذاب ولايخلص الشيطان فيها إلى ما كان يخلص في غيرها
فهي سلام كلها ، قال تعالى : { سلام هي حتى مطلع الفجر } .


فيها غفران للذنوب لمن قامها واحتسب في ذلك الأجر عند الله عزوجل ، قال
صلى الله عليه وسلم : " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما
تقدم من ذنبه " [ متفق عليه ] .

فليلةهذه فضائلها وخصائصها وهباتها ، ينبغي علينا أننجتهد فيها ونكثر من الدعاء والاستغفار والأعمال الصالحة ، فإنها فرصة العمر ، والفرصلاتدوم
، فأي فضل أعظم من هذا الفضل لمن وفقه الله ، فاحرصوا رحمكم الله على طلب
هذه الليلة واجتهدوا بالأعمال الصالحة لتفوزوا بثوابها فإن المحروم من
حرم الثواب ، ومن تمر عليه مواسم المغفرة ويبقى محملاً بذنوبه بسبب غفلته
وإعراضه وعدم مبالاته
فإنه
محروم ، أيها العاصي تب إلى الله واسأله المغفرة فقد فتح لك باب التوبة ،
ودعاك إليها وجعل لك مواسم للخير تضاعف فيها الحسنات وتمحى فيها السيئات
فخذ
لنفسك بأسباب النجاة.


فالبدار
البدار إلى اغتنام العمل فيما بقي من هذا الشهر ، فعسى أن نستدرك به ما
فات من ضياع العمر ، فيما لا فائدة فيه ، فكم نشيع كل يوم ميت ، ونودعه
وندفنه ، فتسال الدموع على الوجنات ، ثم ما نلبث أن ننسى ونعود إلى ما كنا
عليه من غفلة وضياع ، فهذه العشر الأخيرة من رمضان قد تكون آخر ليالي
ندركها فالموت بالمرصاد ، إن لم يأت اليوم فغداً آت لا محالة ، فاستعدوا
بالعمل الصالح ، والرغبة فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم الذي لا
يزول ولا يحول ، فعلينا بالجهاد الذي لا قتال فيه ، ألا وهو جهاد النفس ،
فنجاهدها نهاراً بالصيام ، ونجاهدها ليلاً بالقيام ، فمن جمع لنفسه بينهما ،
ووفى بحقوقهما فهو من الصابرين الذين يوفين أجرهم بغير حساب .

وما
أعظم أن يرغم العبد أنفه لربه تبارك وتعالى ، بكثرة السجود ، وكثرة
الركوع ، وطول القيام ، لمناجاة الخالق جل جلاله ، فذلك من أعظم منازل
الصبر ، أن يصبر الإنسان على طاعة ربه ، كيف لا ، وهو لم يخلق إلا من أجل
العبادة ، فلنحرص على أن نتحلى بالصبر على طاعة الله تبارك وتعالى ، لأن
صلاة التهجد تحتاج إلى ذلك ، وفضلها عظيم ، فهي قرصة العمر ، وغنيمة الزمن
، لمن وفقه الله تعالى .

وقد
كان السلف الصالح من هذه الأمة يطيلون صلاة الليل متأسين بنبيهم صلى الله
عليه وسلم الذي كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه وتتشقق من طول قيامه
لله ، ومناجاة لمولاه ، قال تعالى : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً " [ الأحزاب ] ، فلم
عرف الصحابة ، وصالح سلف الأمة ما تدل عليه الآية ، اقتدوا بنبيهم عليه
أفضل الصلاة وأزكى السلام ، يقول السائب بن يزيد : أمر عمر بن الخطاب رضي
الله عنه ، أبي بن كعب ، وتميماً الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس
بإحدى عشرة ركعة ، قال : وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على
العصي من طول القيام ، وما ننصرف إلا في فروع الفجر " ، وعن عبد الله بن
أبي بكر قال : سمعت أبي يقول : كنا ننصرف في رمضان فنستعجل الخدم بالطعام
مخافة الفجر " .

لما
ذا يفعلون ذلك ؟ هل هذه الصلاة واجبة عليهم ؟ لا ، ولكنهم أيقنوا أن
الجنة حفت بالمكاره ، والثمن باهض ، والطريق طويل ، فلا بد من إحضار المهر
، وقطع الطريق بالصالح من العمل .

فلنحرص
على الاتصاف بتلك الصفات الصالحة ، ولنأخذ من نبينا صلى الله عليه وسلم
أسوة حسنة ، ولنقتد بصالح سلف الأمة رضوان الله عليهم أجمعين .